عمي سعود -رحمه الله- رجل حكيم، تنهمر منه الحكمة كما ينهمر الماء من رأس الشلال لمسقطه، وذات يوم، وأنا طالب جامعي قال لي عندما شاهدني ممسكًا بهاتف ثمنه يفوق ٣٠٠٠ ريال، “يا عبدالله: هل يتناسب هذا الهاتف مع مستوى دخلك؟”، صعقت لسؤاله، فدخلي آن ذاك هو مكافأة الجامعة فقط -٨٤٠ ريال/شهريًا- ولم أكن أعمل سواء كموظفٍ أو بعمل حر، حاولت التملص من الإجابة بذكر مميزات الهاتف وأهميته لي كطالب جامعي يحتاج لهاتف يحول الصور لمستندات.. إلخ ذلك، إلا أنه كرر السؤال ولم ينتظر إجابتي وأضاف على السؤال درسًا -لم أفهمه وقتها- وقال: عش حياتك كما يحلو لك، ولكن لا يكن نمط حياتك أعلى من مستوى دخلك وفوق احتياجاتك فهذا سيستنزفك إلى الأبد، وللأسف لم أفهم هذا الدرس إلا بعد، عندما وجدت نفسي أتخذ قرارات شرائية “غبية” مرة تلو الأخرى؛ فقط لأشبع حاجات موهومة، ولسان حالي الآن، ليتني فهمت الدرس في وقته.
في كتاب “الأب الغني والأب الفقير” قال روبورت كيوساكي: “إن العديد من المشاكل المالية الكبيرة تنبع من اتباع مبدأ القطيع والمزاحمة على ما يقوم به الآخرون”، وليس سرًا إن قلت أن هذا الكتاب الوحيد الذي استسغت أن اقرأه من كل الكتب التي تتكلم عن تطوير الذات، فهذا الكتاب قدم لي دروسًا لم احصل عليها في كل مراحلي الدراسية، بدء من المرحلة الابتدائية وحتى مرحلة الماجستير بالرغم من أن تخصصي كان في إدارة الأعمال ومن ذلك إدارة المال، فالكل في تلك المراحل يتحدث عن كيف تعمل من أجل المال، ولكن هذا الكتاب يتحدث عن كيفية جعل المال يعمل لأجلك.
إن أكثر مشكلة يواجهها الناس هي أنه بالرغم مما يحصلون عليه من زيادة بالدخل إلا أن ذلك لا يكفيهم، والسبب في هذا الأمر بسيط، أن معظم قراراتنا المالية هي قرارات عاطفية، وأضف إلى ذلك السبب الأخطر، وهو أننا “غارقون في بحر من الكماليات“؛ ولذلك تجد أن الأب يعتقد أنه يمنح الحياة المرفهة لابن عمره ١٢ سنة عندما يقدم له هاتفًا يساوي ثمنه ٣٠٪ من دخل الأب الشهري، وليست المشكلة في هذا الأمر، بل المشكلة فيما تحمله هذه العملية من آثار سلبية قد تستمر على الابن إلى الأبد؛ فقد ينضم هذا الابن إلى البحارة الذي يركبون سفينة في بحر الكماليات؛ ذلك البحر الذي لا ساحل له، وإلّا فما الغرض من منح هاتف لطفلٍ لا يحتاج من إمكانيات الهاتف إلا أقل من ٥٠٪ منها، بل ويغنيه ويكفي احتياجاته هاتف بنصف السعر، وليست هذه دعوة للبخل أو لجلب الرديء من الأشياء لأبنائكم، بل هو تفكير بصوت عالٍ حول أنك -بقصد أو بدون- ستحول الكماليات إلى أساسيات لدى أطفالك، ومن ثم حول ماهية الحياة التي تنوي أن يعيشها طفلك، وهل ترغب بأن يوظف الناس ابنك، أو أن يوظفهم هو؟
وعليك أن تتخذ قراراتك بناء على مبدأ العائد والتكلفة، خاصة تلك المتعلقة بالمال والتنشئة المالية لأطفالك؛ فقبل عدة سنوات، كان دفع مبلغ ٣٠٠٠ ريال لشراء جهاز يستلزم أسبوعين من التفكير، ولكن اليوم، يدفع بعضنا هذا في عشاء لمناسبة موهومة؛ كانتهاء ابنه من المرحلة التمهيدية.
وأخيرًا، اتخذ قرارك وأحزم أمرك، أيكون ابنك أسيرًا للبنوك التي ستقدم له القرض تلو القرض، لتستولي على راتبه لعشرين أو ثلاثين سنة.. كما هو حالك أنت؟ ولابن يعرف معنى المال والتعامل معه، خير من ابن يعيش طول عمره يترقب كل شهر موعد صرف الراتب.
عبدالله الغزي
هـ1439-10-25